فصل: الآية السابعة والخمسون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية الرابعة والخمسون:

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)}.
الربا في اللغة: الزيادة مطلقا، وفي الشرع يطلق على شيئين: على ربا الفضل وربا النسيئة حسب ما هو مفصل في كتب الفروع.
وغالب ما كانت تفعله الجاهلية إذا حلّ أجل الدين قال من هو له، لمن هو عليه:
أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقدارا في المال الذي عليه وأخر له الأجل إلى حين.
وهذا حرام بالاتفاق. ومعنى الآية أن اللّه أحل البيع وحرّم نوعا من أنواعه وهو المشتمل على الربا.
والبيع مصدر باع يبيع: أي دفع عوضا وأخذ معوّضا، وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا منها حديث عبد اللّه بن مسعود عند الحاكم- وصححه- والبيهقي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه! وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم». وورد هذا المعنى- مع اختلاف العدد- عن جمع من الصحابة منهم عبد اللّه بن سلام وكعب وابن عباس. وتمام الكلام في هذا المرام في شرحنا لبلوغ المرام فليرجع إليه.

.الآية الخامسة والخمسون:

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)}.
{وَإِنْ تُبْتُمْ} أي من الربا {فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ} تأخذونها {لا تَظْلِمُونَ} غرماءكم بأخذ الزيادة {وَلا تُظْلَمُونَ} أنتم من قبلهم بالمطل والنقص. وفي هذا دليل على أن أموالهم- مع عدم التوبة- حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم، وقد دلت الآية التي قبلها أعني قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر. ولا خلاف في ذلك.

.الآية السادسة والخمسون:

{وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}.
لما حكم سبحانه لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال، حكم في ذوي العسرة بالنظرة إلى اليسار.
والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة.
والنظرة: التأخير.
والميسرة: مصدر بمعنى اليسر، وارتفع {ذو} بكان التامة التي بمعنى وجد. وهذا قول سيبويه وأبي علي الفارسي وغيرهما، وفي مصحف أبيّ: إن كان ذا عسرة على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة، وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين. وإليه ذهب الجمهور.
وَأَنْ تَصَدَّقُوا على معسري غرمائكم بالإبراء {خَيْرٌ لَكُمْ} وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم كلها أو بعض منها على من أعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره. قاله السّدي وابن زيد والضحاك.
وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم، والصحيح الأول. وليس في الآية مدخل للغني.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (280)، جوابه محذوف: أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به. وقد وردت أحاديث صحيحه في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره.

.الآية السابعة والخمسون:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}.
هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا: أي إذا داين بعضكم بعضا وعامله بذلك سواء كان معطيا أو آخذا.
والدين: عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة.
وإن العين: عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا.
وقد بين اللّه سبحانه هذا المعنى بقوله: {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز، وخصوصا أجل السلم.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم». وقد قال بذلك الجمهور واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين.
قالوا: ولا يجوز إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع القافلة أو نحو ذلك، وجوزه مالك.
{فَاكْتُبُوهُ} أي الدين بأجله بيعا كان أو سلما أو قرضا، لأنه أرفع للنزاع وأقطع للخلاف.
{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ} هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها. وظاهر الأمر الوجوب وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما، وأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك، ولم يوجد كاتب سواه، وقيل: الأمر للندب. وبه قال الجمهور.
{بِالْعَدْلِ} صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل: أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانين، وهو أمر للمداينين باختيار كاتب متصد بهذه الصفة لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر بل يتحرى الحق بينهم والمعدلة فيهم.
{وَلا يَأْبَ كاتِبٌ} النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم: أي لا يمتنع أحد من الكتاب {أَنْ يَكْتُبَ} كتاب التداين كَما {عَلَّمَهُ اللَّهُ} أي على الطريقة التي علمه اللّه من الكتابة أو كما علمه اللّه بقوله العدل.
{فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ} الإملال والإملاء لغتان: الأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة بني تميم. فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى. وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى: {فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 5].
{الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} هو من عليه الدين أمره اللّه تعالى بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته، وأمره اللّه بالتقوى فيما يمليه على الكاتب، وبالغ في ذلك بالجمع بين الاسم والوصف في قوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} ونهاه عن البخس وهو النقص بقوله: {يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} وقيل: إنه نهي للكاتب، والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ولو كان نهيا للكاتب لم يقتصر في نهيه عن النقص لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص.
{فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} إظهار في مقام الإضمار لزيادة الكشف والبيان.
{سَفِيهًا} هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء شبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج. وبالجملة فالسفيه هنا هو المبذر إما بجهله بالتصرف أو لتلاعبه بالمال عبثا مع كونه لا يجهل الصواب. وقيل: هو الطفل الجاهل بالإملاء.
{أَوْ ضَعِيفًا} وهو الشيخ الكبير أو الصبي. قال أهل اللغة: الضعف بضم الضاد في البدن، وبفتحها في الرأي {أَوْ} الذي {لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} أي لخرس أو لعيّ أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكتب فالمراد الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي.
وقيل: إن الضعيف هو المذهول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء، والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير.
{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} الضمير عائد إلى الذي عليه الحق: فيمل عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله، ويمل عن الصبي وصيه أو وليه وكذلك يمل عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعفه وليّه لأنه في حكم الصبي أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي. ويمل عن الذي لا يستطيع وكيله إذا كان صحيح العقل وعرضت له آفة في لسانه، أو لم تعرض ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي.
وقال الطبري الضمير في قوله: {وَلِيُّهُ} يعود إلى الحق وهو ضعيف جدا.
قال القرطبي في تفسيره وتصرف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعا مفسوخ أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا، فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه الخلاف.
{وَاسْتَشْهِدُوا} والاستشهاد: طلب الشهادة، وتسمية الكاتبين {شَهِيدَيْنِ} قبل الشهادة من المجاز: الأول أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة.
و{مِنْ رِجالِكُمْ} متعلق بقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} أي من المسلمين، فيخرج الكفار. ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية فهم- إذا كانوا مسلمين- من رجال المسلمين. وبه قال شريح وعثمان البتي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق.
وقال الشعبي والنخعي: تصح في الشيء اليسير دون الكثير.
واستدل الجمهور على عدم جوازها بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة والعبيد لا يملكون شيئا تجري فيه المعاملة. ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأيضا العبد تصح منه المداينة وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك.
وقد اختلف الناس: هل الإشهاد واجب أو مندوب؟ فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي الظاهري وابنه: إنه واجب، ورجحه ابن جرير الطبري.
وذهب الشعبي والحسن ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه مندوب، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع، واستدل الموجبون بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله: {وَأَشْهِدُوا} فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة.
{فَإِنْ لَمْ يَكُونا} أي الشهيدان.
{رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ} أي فليشهد رجل وَامْرَأَتانِ أو فرجل وامرأتان يكفون {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ} أي دينهم وعدالتهم.
وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهن، إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة.
واختلفوا: هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدعي؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك لأن اللّه سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك.
وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدعي.
والحق أنه جائز لورود الدليل عليه وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها. وقد أوضح ذلك الشوكاني رحمه اللّه في شرحه للمنتقى وغيره من مؤلفاته.
ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يردّ به قضاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالشاهد واليمين ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على شفا جرف هار هي قولهم: إن الزيادة على النص نسخ! وهذه دعوى باطلة بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها. وأيضا كان يلزمهم ألا يحكموا بنكول المطلوب ولا بيمين الرد على الطالب وقد حكموا بها، والجواب الجواب.
وقد أوضحنا حكم الزيادة على النص في رسالتنا المسماة بحصول المأمول من علم الأصول وبسطنا الكلام على مسئلة القضاء بالشاهد واليمين في مسك الختام فليرجع إليهما.
{أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما} قال أبو عبيد معنى تضل تنسى: أي لنقص العقل والضبط.
والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. وقرأ حمزة: {أَنْ تَضِلَّ} بكسر الهمزة وقوله: {فَتُذَكِّرَ} جوابه على هذه القراءة وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضل، ومن رفعه فعلى الاستئناف.
وقراءة ابن كثير وأبو عمرو فتذكر بتخفيف الذال والكاف ومعناه تزيدها ذكرا.
وقراءة الجماعة بالتشديد: أي تنبيها إذا غفلت ونسيت.
وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء، أي فليشهد رجل ولتشهد امرأتان عوضا عن الرجل الآخر لأجل أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت. وعلى هذا فيكون في الكلام حذف وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضا عن الرجل الواحد فقيل:
وجهه أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى، العلة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته، وأبهم الفاعل في تضل وتذكر لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان. فالمعنى إن ضلت هذه ذكرتها هذه وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين.
وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال.
وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك- يعني الضلال والتذكير- يقع بينهما متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها.
وقال سفيان بن عيينة معنى قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى} تصيرها ذكرا يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد. وروي نحوه عن أبي عمرو بن العلاء، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ولا لغة ولا عقل.
{وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا} أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل وقيل: إذا ما دعوا لتحمل الشهادة. وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم، وحملها الحسن على المعنيين. وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام.
{وَلا تَسْئَمُوا} أي لا تملوا أيها المؤمنون أو المتعاملون أو الشهود {أَنْ تَكْتُبُوهُ} أي الذي تداينتم به. وقيل: الحق، وقيل: الشاهد، وقيل: الكتاب. نهاهم اللّه سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا ثم بالغ في ذلك فقال: {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} أي لا تملوا من الكتابة في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيرا أو قليلا. وقدم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به ولدفع ما عساه أن يقال إن هذا مال صغير: أي قليل لا احتياج إلى كتبه.
{إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ} أي المكتوب المذكور في ضمير قوله: {أَنْ تَكْتُبُوهُ}.
{أَقْسَطُ} أي أعدل وأحفظ وأصح.
{عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ} أي أعون على إقامة الشهادة وأثبت لها وهو مبني من أقام وكذلك أقسط مبني من فعله أقسط. وقد صرح سيبويه بأنه قياسي أي بني أفعل التفضيل {وَأَدْنى} أي أقرب إلى أَلَّا تَرْتابُوا: أي لنفي الريب والشك في معاملتكم. وذلك أن الكتاب الذي تكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائنا ما كان {إِلَّا أَنْ تَكُونَ} أن في موضع نصب على الاستثناء، قاله الأخفش. وكان تامة: أي إلا أن يقع أو يوجد تِجارَةً والاستثناء منقطع أي لكن وقت تبايعكم وكون تجارتكم {حاضِرَةً} بحضور المدلين {تُدِيرُونَها} الإدارة: التعاطي والتقابض فالمراد والتبايع الناجز يدا بيد {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها} أي فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته.
{وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} هذا التبايع المذكور هنا وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي- كذا قيل، وقيل: معناه إذا تبايعتم أي تبايع كان- حاضرا أو كماليا- لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار من غيره وقد تقدم قريبا ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجبا أو مندوبا.
{وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل أو للمفعول، فعلى الأول معناه: لا يضار كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما، إما بعدم الإجابة أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابته. ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق. ولا يضارر بكسر الراء الأولى، وعلى الثاني المعنى لا يضار كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهمّ لهما ويضيق عليهما في الإجابة ويؤذيا إن حصل منهما التراخي أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد.
ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود ولا يضارر بفتح الراء الأولى، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعا {وَإِنْ تَفْعَلُوا} ما نهيتم عنه من المضارة {فَإِنَّهُ} أي فعلكم هذا {فُسُوقٌ} أي خروج عن الطاعة إلى المعصية متلبس {بِكُمْ}.